تُقدم بيروت سلسلة من الأمكنة التي لا تُشبه الأمكنة، إذ هي خارجة عن أي هندسة، عن أي تحديد، إذ هي تُثير جنون الذاكرة، كما البوصلة التي أصاب عقربَها عطلٌ فأخفقت في الاتجاه. إنّها مساحات تبدو وكأنها لم تحتفظ بالذاكرة ولم تولّد ذاكرة جديدة. لقد كانت هذه الأمكنة بمنزلة رواسب المدينة وذاكرتها. بيروت مدينة لا جدوى من مُداعبة ألمها. فهذا الأمر لا يُسكّن أي شيء، إذ إنّ الألم موجود في مكان آخر. إنها مدينة يقتضي اقتطاع ألمها وبسطه عند ساحة البرج، وهي المدينة الوحيدة التي تستثمر الاستعارات والكوابيس كافة، كابوس تحققها الفوري من خلال الطريقة التي تُسمّركم فيها في مكانكم، خارج أي حقيقة قابلة للفهم، بل فقط في إطار حقيقة هذه القبضة، على غرار الكلس الحي. كل شيء فيها هو ذلك اليقين المحروق، آه! بلا حماسة تُذكر، بل محروق على أي حال. لقد كنتُ من المُشاة خلال بضع...